أخبار عاجلةأهم الأخبارصحف و مقالات

الثّقْبُ الأَسْودُ في فَضاءِ لُبنان: حَيَوِيّةٌ في “الْحَيْوَنة”…

“إمرأةٌ شعثاءُ مستلقيةٌ على ظهرِها رأسُها مائلٌ، غزا القملُ جسدها، تعلّق بها رضيعٌ ذو عيونٍ كبيرة. ومن صدرِها برزَ ثديٌ ملأتهُ الخدوشَ يعصره الرّضيع بأصابعِه الصّغيرةِ وبشفتيْهِ المتلهّفتينِ ليهجره باكياً يائساً من ظهور الحليب”. توفيق يوسف عوّاد – رواية “الرّغيف” .

هو طيفٌ من أشباحِ المجاعة الكبرى الكارثيّة (1915- 1918) في تاريخِ لبنان , يوم خرجُوا بالويلاتِ يهْذون في شوارعِ الموتِ ببطونٍ منتفخَةٍ يتقيّؤون قيحَ الجوعِ بعيونٍ مُحتضرة ويُلمْلمون جُثثَ الأطفالِ بين أكوام النفايات. قرنٌ قد مضى على ما وصَفه “النّبيّ” جبران خليل جبران : “مات أهلي على الصّليب… ماتوا جوعاً في الأرضِ التي تدرّ عسلاً, ماتوا لأنّ أبناء الأفاعِي التهمُوا كلّ ما في حقولِهم وفي أحراجِهم من الأقوات”.    

اليوم وفي القرن الواحد والعشرين, في مشْهديّةٍ سورياليّة هَلْوساتيّةٍ ,و في فلكِ “الثّقب الأَسود” في فضاءِ لبنان,  يقفُ المواطِنُ وحيداً حياديّاً مُنفصِماً مُتشرذِماً عن نفسِهِ , في فعلِ دورانٍ عبثيّ وطوافٍ تدميرِيٍّ حولَ “هويّته”. يقف كَالمَوْتِ الموقوتِ يترقّبُ قرعَ طُبولِ الحرب على إيقاعِ خُطى جحافلٍ من وقودٍ وقمحٍ و “حليب”. جحافلٌ من بلايا ورزَايا تقودُها أَذرعٌ “نازيّةُ” السّيوفِ وناريّةُ “الأداءِ” , تُلوّحُ بمِحرقةٍ “أرزِيّةٍ” قد تقلعُ نبضَ اللّبنانيّ عن بِكرةِ تُرابِهِ و خَارطَةِ كيانِهِ.

أخطبوطُ الأزماتِ الجُنونيّةِ يتمدّد وأذرُعُ الحُكّاِم كالمَقاصِلِ لا تجد عُذْرا كي تدكّ الرّقابَ دكّا وتبثّ السمومَ بثّا , طالما المُواطنُ لا يزال يمتصّ بِخُنوعٍ فُتاتَ التّرْياقِ و”يتأقلمُ” بانفِصامٍ مع الهزائِمِ المُمَنهجةِ بين طوابيرِالإذلالِ وتحتَ محادلِ سحقِ الكراماتِ بحثاً عن حِنطةٍ ووقودٍ ودواءٍ و “أشلاءِ” هويّة!  

أُوصِدَتْ أبوابُ “العقاقيرِ” – الصيدليات- في وجهِ المواطن المُوصدِ أصلاً بِأغلالِ الغصّاتِ,  بينما فُتحت “قلوب” ساسةٍ يعترفون لِشُهداءِ “لعنة الأمونيوم” أنّ الفسادَ المُسْتشري قد  هزَمهمْ! . حقّاً؟ قد هزمَكُم الفسادُ, فَ “سادَ” الفجورُ و”ضجّ” الاستبداد . “أمراءُ الطّوائفِ” يصُمّون الآذانَ بينما مآذنُ المساجِدِ تصدحُ بالجنازاتِ ونواقيسُ الكنائسِ تُقرع على صلاةِ الموتِ,  يُخلّدون أرواحاً زُهِقَتْ تحت الرّكامِ “الفُوسفورِيّ” وأرواحاً تتحضّرُ طَوْعاً لتسليمِ موتِها البَطِيِء كفناً بينَ “كُفوفِ” الزّعَمَاء. 

هذه الأيادِي السّود لمْ تعد تخْجلْ حتّى بالقَذارةِ “الأيديولوجية” , فخلعَتْ بِفخرٍ”قفّازاتِ” القتْلِ شاهرَةً بصماتِ “مصّ الدّماءِ” على “جُثثِ” اللّبنانيّين الأمواتِ مِنهم والأحيَاءْ. هاهي المُسْتشفياتِ تفقِدُ أوكسيجين الشّفاءِ من معدّاتٍ وأدواتٍ ومواردٍ بشريّة- أطبّاء وممرضين-  آثروا الهِجْرةِ على ذُلّ “التّخديرِ”. هاهِيَ تتهدّدُ حتّى بإيقافِ “غسيل الكِلَى” نتِيجة سياساتِ القتلِ المُتعمّد عن سابِقِ تصميمِ نَهْبٍ وجَلْدٍ و فسادٍ ووباءٍ سياسِيّ وأخلاقيّ “كُورونِيّ” يَشلّ كافة الحواسّ -لا شفاءَ لهُ ولا َمن يحزَنُون- قتلٌ بِنكهةِ حضاَراتِ “الماوري” في تاريخِ جُزرِ نيوزيلاندا النّائية وثقافة آكلي لحوم البشرالذين هاجمُوا السّفينةِ دِفاعاً عن زَعِيم قبيلتِهم.

إنّها واللهِ حيويّة فائقة في “الحَيونَة” كما وصفها ممدوح عدوان في إطارِالوحشيّةِ كَسُلوكٍ إنسانيّ ولُعبة الصّراعات بين جلّاد وضحيّة في “مجتمعات القمعِ، القَامعةِ والمَقْموعَة” والتي “تُولّدُ في نفسِ كلّ فردٍ من أفرادها دكتاتورًا,ومن ثمّ فإنّ كلّ فردٍ فيها ومهما شكا من الإضّطّهاد يكون مُهيّأً سلفًا لأنْ يُمارس هذا القَمع ذاته الذي يشكو منه وربما ماهو أقسى وأكثر عنفًا على كل من يقع تحت سطوته” !

هذا القَمعُ الذي يَتجسّد في “التّشجيع” لجشعِ التّجّارِ وعمليّات الإحتكارِالمُمَنهجَة و”المقامرة” بالعُملةِ الوطنيّة و”عرقِ جبينِ” المودِعين و “الإستعلاء” على حليبِ الرّضّع ومعاناة النّاس من كلّ صوبٍ تحت رحمةِ إقتصادٍ يتدهور بشكلٍ دراماتيكيّ , يستَنِدُ على هاويةِ  تَبَخُّرٍ مُرتقَبٍ لما تبقّى من ذرّاتِ طحينٍ كي تكتمل مِحدلة “طحن” المواطن وتعجيلِ آخرِ زفرات البقاء. بقاءٌ في وطنٍ يحتضرُ و يأبى حُكّامُهُ أن يَتحضّروا “خُرم إبرةٍ” ويرحلُوا بما تبقّى من ماءِ وجهٍ “مُسرطَن الذرّات”.

فأسُ الفسادِ يبترُ الرّؤوسَ و لا مطرقةَ عدلٍ تبُتّ حتّى في “إيحاءِ” مُحاسبةٍ للفاسدين. أزمةُ “الثّقةِ” في جِسْمِ القضاءِ هي مربضُ الفرسِ الذي أصابَ توصيفه نقيبُ مُحامين بإِعلان إنتفاضة “كبرى” وُلدتْ من “الكَيلِ” الذي طَفحَ واستشْرَسَ على امتدادِ أخطبوطِ الفسادِ المُستشري في قاعات الخطى الضّائعة,  فلم يعد من “موقِفٍ” يُجدي إلّا وقفة الضّمير.كيف للمواطنِ اللبنانيّ إذاً أن “يُحاسب” من يقتُلونَ قُوتَهُ وقَدَرَهُ وما تَبقّى من أنْفاسِهِ ؟ أولئك كما وصفهم  Cicero خطيب روما هم “قتَلةٌ لا يبحثون عن فلسفةٍ بل عن أجورهم”. هم لم – ولن- يكتفوا بالأجورِ”المنهوبة” على مدى عقودٍ, بل يُصرّون على “الأخضرِ” و”اليابِسِ” في أداءٍ “نيرونيّ” يحرِقونَ به لبنانَ الكبير- واللّبنانيين- وهُم يعزفون القيثارةَ على مسرحِ “المِينا”!

“المينا” ! المرفأُ الجريحُ الذي لا يزال “شريانُه التّاجيّ”  ينبضُ بدماءِ الشّهداء بين رمادٍ وركام يبحث عن طائرِ”فينيق” يتمرّدُ على طمسِ”الحقيقةِ” ويثأرُ من ماردِ القتل العبثيّ بتعليق “مشانق” المحاسبة . وحدُها إهراءات القمح تصدّت للموتِ الكبير وامتصّت بعض سعيرٍ كاد يضاعفُ مشهديّة “هيروشيما” دمويّةً.

 القمحُ والسّنابل! أزمةُ القمحِ بدأت تُطلّ برأْسِها في “محارقِ” الأفرانِ ورائحةِ الرّغيف. إِنّها حَتْماً حربُ “سدّ الرّمق” و شبحُ المَجاعاتِ الذّي يُهدّد واقع اللبنانيّ مُسْتذكرا تاريخَه “الإستعماريّ” عن كثبٍ في هذا الآن. إنّه “شارل ديغول” الذي صرّح أن”لا تبحثوا عن أسبابِ الحربِ في براميلِ البارودِ، بل في إهراءات القمح”. هذه الإِهراءات التي خذلَها الحُكّام عنوَةً في “خيانةِ” أرضٍ عُظمى قد سمّمُوا خيراتَها عن سابقِ “فسادٍ” في سُهولِ الِبقاعِ والشّمالِ وتقاعسواعن أيّ استراتيجيّة “إنتاجيّة” لحفظِ الثّروات للسّنين “العجاف”!

هم حُكّامٌ من “فصِيلةٍ” اسْتِثنائِيّة. أُمراءُ “طوائفٍ” مُفترسُون وملوكُ “شَعبَويّةٍ” انتهَازِيّون وأوغادُ “سُلطةٍ” غوغائيّون.هم الحُكّام الذّين خاطبهم السيّد موسى الصّدرِ وصفاً ” أنتم أيّها السّياسيّون آفةُ لبنانَ وبلاءُه وانحرافُه و مرضُه وكلّ مصيبةٍ, إنّكم الأزمة فارْحلوا عن لبنان”. هؤلاءِ “السّياسيّون” غِذاؤُهُم “مِزاجُ” شعبٍ بات يُتقِنُ الإنفِصامَ “الوطَنيّ”,قد مَزجُوا جيناتَهُ بِثقافةِ الخُنوعِ المَخدوع وتكتيكِ التّبعيّةِ الإستعباديّةِ وطلاسمِ القَمْعِ المُقنّع. لكنّ توقيتُ “البركانِ” قد تَبلوَر وسيلُ الغليانِ في النّفُوسِ والعُقولِ قد بَلغَ الزّبى. “بُوصلةُ” الحمم البُركانيّةِ تدلّ على القاتِل “الأخطبوط”, ووَجعُ المُواطنِ أضحى حِزامَ نارٍ قابَ قوسيِن وأدنى. فَمَتى يتدفّقُ الحِزامُ ويلتَفُّ بتراً على أذرُعِ الموت بلا “ذعرٍ” أو “ذريعة” ؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى