لا أعرف لقمان سليم.. ولكن_حسين أيوب
لا أعرف لقمان سليم شخصياً. لم أكن أطمح يوماً إلى التعرف إليه. لم أكن أتابع إطلالاته التلفزيونية. لا صداقة إفتراضية أيضاً لأنني لم أصبح جزءاً من هذا العالم بعد. لا حاجة للإستعانة بمحرك غوغل ولا إلى زملاء وأصدقاء مشتركين للتعرف إليه.
نعم، لا أعرف لقمان سليم ولكن؛
أياً كان القاتل هو مدان. من أطلق الرصاصة في رأس لقمان سليم هو مجرم. أستعجل الإفتراض أن القتل سياسي.. ولأنه كذلك، من يقرر إعدام سياسي أو صحافي أو صاحب رأي لأنه يختلف معه، إنما يطلق النار في رؤوسنا جميعاً. لقد شعرنا بوجع لقمان عندما أصابت الرصاصة رأسه. هناك زوجة وعائلة وأحبة وشلة رفقة كانوا ينتظرونه وما عاد إليهم. عاد جثة مضرجة بالدماء والأسئلة والغضب.
إتجه الإتهام مباشرة إلى حزب الله. لماذا؟ لأن لقمان لم يجد خصومة أدسم من خصومة حزب الله. إبن الضاحية الجنوبية، وتحديداً حارة حريك. إبن عائلة سليم العريقة التاريخ في ساحل المتن الجنوبي. والده المحامي الكتلوي الألمعي محسن سليم. إحترف لقمان وشقيقته رشا الأمير مهنة النشر، فكان “دار الجديد” جزءاً من هوية بيروت الجميلة التي نهضت بعد الحرب. هذا اللقمان، ولأسبابه وقناعاته، قرّر أن يُقارع الولي الفقيه من الخميني إلى الخامنئي. قرر أن يقاتل حزب الله من الشيخ صبحي الطفيلي إلى السيد حسن نصرالله. جيشهُ هو إسمهُ وعائلته وسجل قيده وعنوان سكنه.. والأهم صوته الذي كان يغرّد خارج “سربه” ويجعله يحظى دائماً بحضانة كل من يريد تظهير الصوت الشيعي المعترض.
وفّر لقمان لنفسه وجاهة يهوى التباهي بها. صار نَجماً إعلامياً. تتصل به فضائيات وسفارات ومراكز أبحاث وتطلب رأيه في كل ما يتصل بـ”بيئتهِ” الحمّالة الأسئلة. لن أخوض أكثر في سيرة لقمان سليم، وأنا لا أعَرف منها إلا القليل، وليست وظيفة هذا المقال الإضاءة على هويته الشخصية. جُلّ ما في الأمر أن لقمان إختار أن يكون مشاغباً إلى حد تخوينه وشيطنته من قبل جمهور عريض يندرج في خانة “الممانعة”. بهذا المعنى، صارت هذه “الممانعة” في وجه من وجوهها أداة تكفير وترهيب من جهة ومنح شهادات في الوطنية والقومية والأممية من جهة أخرى. الأفدح أن بعض من قدموا إليها متأخرين إنما أتوا إليها من مطارح موغلة في اليمينية الفكرية والنضالية، وهؤلاء صاروا في موقع “الإفتاء”… وللأسف، أعطاهم لقمان كل مادة يريدونها، من “ويكيليكس” إلى آخر منشور إفتراضي له.
برغم هذا وغيره مما نعرفه أو نجهله، فإن لقمان سليم صار منتجاً شيعياً لبنانياً يمكن لأي عاقل في بيئته أن “يتاجر” بإسمه وبعنوان سكنه وبتاريخ عائلته للقول إن هذه البيئة تحتمل هذا وذاك. هذا تاريخها منذ مئات السنين أو أقله من زمن لبنان الكبير حتى يومنا هذا.
ليس مَسموحاً لهذه البيئة أو غيرها إحتضان أي فكر سلفي إقصائي. فكر لا يتغذى إلا من فكر داعش نفسه. هذه المجموعات إذا إنوجدت وتعاظم دورها، فهذه هي الهزيمة بذاتها. أذكر جيداً ما قاله السيد نصرالله للأستاذ طلال سلمان بحضوري أثناء مقابلة مع “السفير”، غداة حرب تموز/ يوليو 2006: عندما يغيب الرأي الآخر في بيئتنا تكون بداية هزيمتنا ولو لم تكن هناك حركة أمل لإخترعناها. في الوحدانية موتنا وفي الثنائية وأكثر حياتنا.
من يراجع كتاب “المتاهة اللبنانية – سياسة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل تجاه لبنان”، من تأليف المؤرخ الإسرائيلي رؤوفين أرليخ، وتعريب الزميل القدير محمد بدير، سيجد في طيات صفحاته ووثائقه (900 صفحة) ما يُذهل القارىء وما يشيب له شعر الرأس، لكثرة تورط عائلات سياسية لبنانية (وشيعية طبعاً) في بيع الأراضي والتعامل وتهريب اليهود والترويج للفكرة الصهيونية، وهنا يتحدث الكاتب عن عائلات حكمت لبنان ما بين 1920 و1958، وما زال بعضها حتى يومنا هذا في صلب هذه الطبقة السياسية الحاكمة.
لم يكن لقمان سليم من بين هؤلاء أبداً. لا هو ولا عائلته. لذلك، لو كان القاتل يريد تبييض صفحة البيئة التي ينتمي إليها هذا الرجل، لربما لجأ إلى تعليق آلاف المشانق والإستعانة بآلاف الكواتم. عليه أن يبدأ من أمكنة أكثر تأثيراً، بالمعنى السياسي والثقافي والبنيوي. لقمان سليم هو مجرد حالة ثقافية في بيئته. تتفق أو تختلف معه هذا شأن آخر، لكن لقمان الحي هو غير لقمان المغدور. لقمان الحي كان رجلاً معارضاً إلى درجة تبرؤ عائلته الكبرى (آل سليم) منه في يوم من الأيام على خلفية أحد مواقفه أو “بوستاته”. هو “تلوينة” في بحر الضاحية الحزب اللهي. هو مجرد صوت معارض بالسياسة في قلب أمة موالية. كان يكتب ويقول رأيه بصراحة وشجاعة. صوت غير مرغوب به هذا مؤكد. لاجىء سياسي في عمق “المربع الأمني” أو حتى منبوذ من بيئته هذا مؤكد أيضاً.. وماذا يضير في أن يكون لقمان وألف لقمان غيره؟
سيقال الكثير الكثير عن لقمان سليم. إدانة القاتل في هذه اللحظة ضرورية ومطلوبة. لبنان ليس في زمن الثورة اللينينية واللحظة الثورية حتى ينبري من يؤمن بالعنف الثوري وسيلة لتصفية “الخونة”. لبنان ليس كذلك، لا بالأمس ولا اليوم ولا غداً. لبنان لا مكان فيه لمحاكم التفتيش، وليبادر حزب الله، إلى لم “اولاد الحزب” ممن يسيئون إليه أكثر مما يفيدونه. عيب هذا الذباب الإلكتروني المنفلت من عقاله والعيب الأكبر أن يصدر عن أشخاص محسوبين على رأس هرم الحزب. الأهم من ذلك أن يضع حزب الله يده بيد الأمن اللبناني من أجل كشف القاتلين بأسرع وقت ممكن. بذلك وحده يستطيع حزب الله أن يحاصر هذه الموجة التي تستهدفه بتوقيتها الداخلي والخارجي، لا بل في كل ظروف الجريمة وهدفها وأدواتها ومكانها وزمانها.
منذ العام 1948، قاومت دول وشعوب عربية كثيرة، ولم ينتصر أحد منها على إسرائيل، كما إنتصر لبنان في العام ألفين، إلا لأنه ليس بلداً إستبدادياً. إسرائيل هزمتنا بإستبدادنا. بالوعي. بتكريس فكرة أننا كنا ويجب أن نبقى مهزومين. نعم، لبنان التنوع كسر منطق الهزيمة وفكرها، برغم ديموقراطيته المثقوبة. كسره برصاصات مقاومة إنطلقت من بيروت في العام 1982 وإمتدت إلى كل الوطن.. والأهم أنه كسره بالصوت الذي كان ممنوعاً أن يصرخ ويقول لا للإحتلال في زمن كان مطلوباً منا جميعاً أن نقبل بالهزيمة.
الإستبداد صنو الإحتلال، ولن يقوى لبنان على مقاومة إسرائيل أو أي عدو آخر إذا سقط في فخ الظلام والظلامية والإستبداد.
حتماً، لو قيل للقمان سليم، هل ترغب بالموت على جهاز تنفس إصطناعي في زمن الكورونا أو أن تكون شهيداً، على طريق الجنوب، لأجاب الشهادة حتماً، وهل هناك جهة أجمل من الجنوب؟
المصدر: 180post